الاختفاء القسري بحاجة إلى تشريع حصري
د.سيف السعدي
جريمة الاختفاء القسري : تعد من الجرائم التي لابد من وجود تعريف مفصل لها ، ولاسيما بعد أن تم تحديد يوم 30 اغسطس/ اب من كل عام يوم دولي لضحايا الاختفاء القسري، وبعد البحث والتقصي وجدت أن المادة (2) من “الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري” قد عرفت هذا المصطلح تعريفًا مفصلًا وهو “الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال والحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، مما يحرمه من حماية القانون” هذه الاتفاقية تم اعتمادها في 23 كانون الاول لسنة 2010 من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها 47/133 في كانون الاول لسنة 1992، لكن في العراق لدينا مشكلة تكمن في عدم وجود تعريف صريح لمصطلح الاختفاء القسري في التشريع الوطني “القانون” كجريمة مستقلة وهذا الامر أثار قلقًا كبيرًا لدى المجتمع العراقي ، وهو ما حذرت منه “كارمن روزا فيلا كوينتانا” رئيسة لجنة الأمم المتحدة المعنية بحالات الاختفاء القسري (CED)، حينما زارت العراق في (24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022) التي دعت العراق إلى إجراءات عاجلة لإدراج الاختفاء القسري كجريمة مستقلة في التشريع الوطني، مشددة على أنه لا يمكن تأجيل العملية أكثر من ذلك، وأضافت “أن العمل على جريمة غير موجودة في الإطار القانوني الوطني يعتبر وهم، بغض النظر عن الأساليب والأهداف الموضوعة”، حيث اشار الوفد الذي استغرقت زيارته اثنا عشر يوماً فقط أن المعلومات والبيانات المتوفرة في العراق لا تسمح بقياس حجم هذه الجريمة، إذ أن اللجنة سجلت أكثر من (555) إجراءً عاجلاً تتعلق بوقائع حدثت في العراق، وأن فريق عمل الأمم المتحدة المعني بحالات الاختفاء القسري قد أحال ما مجموعه (16575) حالة إلى العراق في الفترة من 1980 إلى 2013 فضلاً عن المئات من ادعاءات الاختفاء القسري التي تلقاها الوفد من محافظات مختلفة في العراق، على سبيل المثال في محافظة الأنبار بتاريخ 3/ يونيو/ حزيران 2016 تم اختفاء أكثر من (800) شخص من ابناء منطقة الصقلاوية على يد جماعات غير معروفة في عهد حكومة السيد حيدر العبادي ولا يعرف مصيرهم لغاية اليوم، حيث تم تشكيل لجنتين:
الاولى: لجنة من مكتب رئيس الوزراء حيدر العبادي في يوم 5 يونيو/ حزيران 2016 للتحقيق في عملية الاختفاء القسري والانتهاكات المرتكبة في سياق العمليات العسكرية لتحرير مدينة الفلوجة.
الثانية: لجنة شكلتها السلطات المحلية في الأنبار ونشرت نتائج التحقيق في 11/ حزيران 2016 التي أشارت إلى اختفاء اكثر من (800) شخص، فضلاً عن حالات مماثلة حصلت في القرب من بحيرة الرزازة والكرمة والفلوجة في الأنبار، وجرف الصخر في بابل، وديالى وصلاح الدين، والموصل، وكركوك، وسنجار، ولكن لغاية الان فشلت جميع اللجان في الكشف عن مصير المختفين.
لجنة كارمن روزا فيلا في زيارتها حثت الوفد العراقي على ضرورة إنشاء سجل مركزي ومترابط لتمكين التعرف على حالات الاختفاء القسري بشكل موثوق، والوصول السريع والفعال إلى المعلومات من قبل جميع المؤسسات المسؤولة عن البحث من اجل التحقيق في حالات الاختفاء القسري، فضلاً عن النظر إلى معاناة ذوي المختفين قسراً مع الاخذ بعين الاعتبار معالجة “البيروقراطية” في مؤسسات الدولة، إذ يتعين على اهالي المختفين مراجعة أكثر من سبع دوائر، مع وجود مخاطر تتمثل بتهديد ذوي المفقودين والانتقام منهم في حال طالبوا بالكشف عن الجهات التي كانت تقف وراء هذه الجريمة، والامر لم يتوقف عند هذا الحد بل تعرضت الكثير من عوائل المختفين قسراً للابتزاز والمساومة بمبالغ مالية كبيرة مقابل خبر عن ذويهم أو أي معلومة بسيطة تتعلق ببقائهم على قيد الحياة، وبالتالي يكتشفون أنهم خُدعوا ولم يحصلوا على أي معلومة، وتجدر الاشارة هنا إلى أن هذا الملف فيه جنبة قانونية وشرعية معنوياً ومادياً كالآتي:
اولاً: من حيث القانون : ضمن الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لسنة 2010 المادة (1) تنص على “لا يجوز تعريض أي شخص للاختفاء القسري، لا يجوز التذرع بأي ظرف استثنائي كان، سواء تعلق الأمر بحالة حرب أو التهديد باندلاع حرب، أو بانعدام الاستقرار السياسي الداخلي، أو بأية حالة استثناء أخرى، لتبرير الاختفاء القسري”، المادة (4) من نفس الاتفاقية تنص على “تتخذ كل دولة طرف التدابير اللازمة لكي يشكل الاختفاء القسري جريمة في قانونها الجنائي” وهنا لدينا مشكلة في العراق تتمثل بعدم وجود نص واضح وصريح للاختفاء القسري في القانون العراقي كجريمة مستقلة، لذلك يتطلب تشريع قانون خاص بهذه الجريمة من مبدأ الشرعية الجنائية الذي ينص على ( لا جريمة ولا عقوبة الا بنص )وتماشياً مع الاتفاقية الدولية لحماية جميع الاشخاص من جريمة الاختفاء القسري، وقبل الايام وصل مشروع قانون الاختفاء القسري من مجلس الوزراء إلى اللجنة القانونية في مجلس النواب العراقي تمهيداً لتشريعه، من اجل انصاف عوائل الابرياء، وقانون الاختفاء القسري لا يقتصر على مكون دون اخر كون هناك احصائيات قبل عام 2003 كما اشرت في البداية، والمادة (5) ضمن الاتفاقية الدولية لحماية جميع الاشخاص من الاختفاء القسري اشارت إلى “تشكل ممارسة الاختفاء القسري العامة أو المنهجية جريمة ضد الإنسانية كما تم تعريفها في القانون الدولي المطبق وتستتبع العواقب المنصوص عليها في ذلك القانون”، ومن الواجب الاخلاقي والانساني والقانوني والشرعي اتخاذ اجراءات عاجلة وفورية من قبل الحكومة العراقية لانصاف ممن لم يثبت عليه أي ادانة قانونية.
ثانياً: من حيث الشريعة : قد مضى على مدة الاختفاء القسري أكثر من ثمان سنوات للفترة من (2016 لغاية 2023) فما بالك بالحالات التي تسبق عام 2016!!، وكثير من هؤلاء هم متزوجين ولديهم عائلة، وزوجاتهم لا تعرف هل هم على قيد الحياة أم انهم اموات.
ثالثاً: الجانب المعنوي : اغلب عوائل المختفين قسراً تعرضوا لظلم وضرر نفسي ولاسيما عند مراجعة الدوائر وما يتعلق باصدار الاوراق الثبوتية نجد هنا الجريرة حاضرة ويؤخذ بها وهذا لا يصح انطلاقاً من قوله تعالى (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).
رابعاً: الجانب المادي : الاغلبية الدهماء من عوائل المختفين قسراً من العوائل المتعففة والتي لا تمتلك قوت يومها لانها تعتمد على رب الاسرة أو ابنائهم الذين تم تغييبهم، فضلاً عن منازلهم المدمرة بسبب العمليات العسكرية وكذلك الارهابية ولغاية الان لم يتم تعويضهم بسبب ارتباط قضاياهم بملف ذويهم المختفين.